آخر المواضيع

mercredi 11 février 2015

الوقت الضائع

الوقت الضائع


ها هي الدنيا يا بني، تَجِدُّ في هجْرِك، وتُواصِل قَهرَك، وأنت أنت، لا تُغيِّرك السنون، حتى تُصاب بالجنون! أتخال يا زيد أنها تأبه بأحزانك؟ فهي هي، لا تُغيِّر ديدنَها من البَيْن والفراق، فدَرَاكِ هواجس النَّفْس يا بني دراك.

أتعلم يا أبي، ما زلت متفائلاً، فما أنا الذي تخضعني صوارفُ الدهر، أو تَعزِلني مضنة القهر، فما همَّني أن شاحت الدنيا بوجهها عني، فالقادم سيكون مليئًا بالتغني.

لا أدعوك للنحس يا ولدي، لكن ثمة سُنن في هاته الحياة لا تتغيَّر، ولا تتبدَّل، ما يُخيفني يا بني، أنك مُقدِم في غير موطن الإقدام، ومُوغِل في مهاوي السنين الخدّاعات.

دعه يا رجل، وكفاك تثبيطًا له، لمَ تريد أن تُصوِّر له الحياة بُرهةً لا تكفي للمِّ حوائجك؟ دعه فما زال يافعًا، يَسرح ويمرح كعصفورٍ طليق.

أجدتِ التشبيه يا أم زيد، فما الحياة إلا بُرهة، وأما العصفور فلا يسرح بل الماشية تفعل ذلك، وأظنه يعرف تمامًا متى يُحلِّق؟ ومتى يَسترزِق؟ أما أولادنا فأخاف أن يكونوا مِثل الماشية، أريد أولادنا عصافير حرة، لا تقبل الذلَّ والهوان، ولكني أريدهم أن يعلموا متى يُحلِّقون، وبأي فضاء يُحلِّقون.

الأمر لا يحتاج يا أبت، فالحذرُ لا يُنجي من قَدَر، وأنا وإخوتي لسنا بهذا السوء، ولم يَصدُر منا ما يُبرِّر لك سَرْد مواعظك وحِكمك وفلسفتك البالية.

أيجب عليَّ يا بنتي أن أنتظر ريثما تتسلَّلين وإخوتك إلى أدراك النفس؟ أليس مهينًا أن تُطلِقي على خوفي عليكم وواجبي في تربيتكم فلسفةً بالية؟

ألم يَجدُر بك يا هند أن تُخاطبي أباك بطريقة تضاهي خوفه عليكم؟

مرَّت السنون والأب ما انفكَّ عن قلقه، واستقبل هذا القَلَق دعوات ساذجة للاطمئنان نابعة من سطحية الأم، أما الأولاد فكانوا مشغولين باستقبال شآبيب العدو الداعية للانفلات والتحرر والتملص، والأب يُراقِب عن كثَب جسدي لا نفسي، ويدعو الله أن يُخيِّب ظنَّه ويُنجِّي أولادَه.

ولكن لات حين مناص فقد وقع المحظور، فكثيرًا ما تأتينا النصيحة والتجرِبة والخبرة على أطباق من عسجد، لكنا نؤثِر أن نتناولها على أطباق رخيصة بالية مليئة بالحسرة والندم.

أخزاك الله يا عمرو، أخزاك الله يا حبيبي، تعال يا أبا زيد، ويلي لا تأتِ، كيف لك أن ترى ولدَك؟ أَسرِع يا أبا زيد، أَسرِع، ما الأمر يا امرأة؟ ما لك تُصوِّتين؟ ويلنا يا أبا زيد، ويلنا! فما كنتَ لنا إلا من الناصحين، وما ظلمتنا لكن كنا لأنفسنا ظالمين!

ما خطبك يا امرأة؟ انطقي!

زيد يا أبا زيد، زيد.. زيد؟! لا بل عمرو، ما به، تكلَّمي وردني هاتف من الشرطة، يخبِرني أن عمرًا في المستشفى، بعد أن قبضوا عليه ورفقته المكونة من غِلمة وفِتية وفتيات يافعات، وهم يتعاطون المخدرات، وقالت لي الشرطة...

ماذا؟! (مُخدِّرات، فتيات، اختلاط، مستشفى، محكمة، سجن، غلمة، ضياع، مستقبل)؟!

هوِّن عليك يا أبا زيد، فما زِلنا على البرِّ، ويُمكِننا تَدارك ابننا.

اصمتي.. اصمتي، فكنتِ وما زلتِ تهوِّنين الأمر، حتى نفد الصبر.

عمرو حبيبي، هل أنت بخير؟ أما وعدتني أن تكفَّ عن شرب المُسكِرات؟ بلى، فعلتُ لكنها المخدرات يا أمي.

ماذا؟! مسكرات، مخدرات؟! أكنتِ تُخفين عني أمرًا كهذا؟ كلا لكن..

اغربي عن وجهي يا امرأة، اغربي عن وجهي أيتها البلهاء.

ذهبت الأم غارقةً بدموعٍ ساذجة، يُراوِدها دمْع نادم ويَصُده حنين أرعن.

الأب يَجهَش بكاءً، وهو يستمع لهسهسة ابنه: كان علي أن أعلَم متى أحلِّق؟ وبأي فضاءٍ أُحلِّق؟




Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

نموذج الاتصال

Nom

E-mail *

Message *

Traduction ترجمة

التسميات