آخر المواضيع

mercredi 11 février 2015

سبل الخلاص

سبل الخلاص


عندما يجتمع الفراغُ والألم والوحدة تُصبح كلُّ الاحتمالات ممكنة! ويصير الجنون سيِّدَ كل الانفعالات! المختصون النفسانيُّون يتخوَّفون من مثل هذه الحالات، ويحاولون تهدئتها بالعقاقير المخدِّرة للمشاعر لإضعاف ثورتها، وتحديد آثارها؟ غريب ما تفعله تلك المخدرات! تجعل الإنسان كالأبله! ينظر حوله بعيونٍ سارحة، لا يركز على شيء معيَّن، وكلُّ الصِّراعات التي تضطرم في عمقه تبدو له وكأنَّها بعيدة عنه رغم أنَّها تغلي في جوفه! لكن.. لا تبدو له مهِمَّة، وهو لا يريد مواجهتها! عندما تُلح على البروز يأخذ حبَّة تجعله ينام وينسى، وحين تلحقه الكوابيس لتنغصَّ عليه هروبه يحاول اختيار مخارج أخرى، بعضهم يختار مخدِّرات أخرى أقوى، وإن كانت ممنوعة، بعضهم يصرخ في وجوه كلِّ من يلقاهم أو يتعدَّى عليهم، فالمهم إسكات البُركان الثَّائر! قليلون يختارون اللُّجوء إلى الله! وآخرون يفضِّلون الانطواء على أنفسهم، حيث لا يراهم أحد! وهم أعقد الحالات؛ لأنَّ ذاك المَخرج غالبًا ما لا ينجح؛ فالإنسان حينها يكون بلا دفاع ضعيفًا إلى أقصى الحدود، فيموت الأمل في نفسه، ويفقد الثِّقة في ذاته وأقربائه.

ولمَّا تسقط الأهمية عن كلِّ الأشياء وتغيب الحلول، عندها تبدأ فكرة الانتحار في الظُّهور! وفي أيَّة لحظة تصبح أيَّة عقدة من تفاهات هذا العالم سببًا وجيهًا للخلاص إلى حيث يُظن أنَّه السُّكون والرَّاحة! لا أعتقد أنَّ أحدًا قد نجا من هذه التجرِبة، أغلبهم ينتصرون على هذه الأوهام، ويركنونها في جزء الماضي، ويبدؤون صفحة جديدة، لكن هناك من يقع، فيبدأ في اختيار الوسيلة الأنجع الأسرع، والأقل إيلامًا، ونفسه تصوِّر له أسف الأهل وندمهم على ما فرَّطوا في حقِّه، عن شوقهم لعودته، أحاديث النَّاس الحزينة! ويظن في لحظات غياب العقل أنَّ انتحار الواقع كانتحار الأفلام والمسلسلات، أنَّه سيعود إلى الحياة كما عاد الممثِّلون! أيُّ مصطلح يمكن أن يحمله هذا التَّفكير؟!

في هذا الأسبوع جنازتان من هذا النَّوع! لا أصدِّق! كيف جرت الأمور؟! وهذه الغرفة السَّوداء من حولي تضغط على أنفاسي! لا أصدِّق! كنت أعرفهم، الأوَّل ابن جيراننا، والثَّانية صديقتي، كيف وقعا؟! فضيحة كبرى في الحي، الفتى كان في السادسة عشرة من عمره، بعضهم قال: إن السَّبب كان درَّاجة طلبها من والده ورفض شراءها له، وآخرون قالوا: إنَّه كان بعد شِجار وقع بينهما بسبب النَّتائج المدرسية! أمَّا الأكيدُ، فهو انتحار الفتى، أخذ حبلاً وكرسيًّا؛ وخرج بهما إلى الحديقة حيث شجرة الزيتون! عندما عُثر عليه وجدوا الكرسي واقعًا تحته، عيناه كانتا جاحظتان؛ ويداه كان فيهما خدوشٌ كثيرة! إحدى فردتي حذائه قد سقطت عنه، وكذلك سكِّين صغير، تقرير الشُّرطة أفاد من خلال معاينة المعطيات أنَّه حاول إنقاذ نفسه لكنَّه فشل، لمَّا عاد إليه وعيُه حاول التَّمسك بالحبل وتقطيعه بالسِّكين، لكنَّه كان صغيرًا، والحبل كان سميكًا! وجسده كان يتخبَّط بشدِّة في الهواء، وقع السِّكين، وكذا الكرسي! قاوم بعض الوقت؛ لكن الانفصال الرَّهيب وقع! عثر على الجثَّة بعد ساعة كما أفاد تقرير الطَّبيب الشَّرعي، كان فتىً جميلاً! إمام الحيِّ رفض الصَّلاة عليه، حاولوا الإتيان بإمام آخر من الحي المجاور؛ لكنَّه عندما وصل إلى بيت الجنازة وعلم بسبب الموت من أحد الحاضرين، رفض.

يا لها من نهاية! دُفن من غير صلاة وفي مكانٍ مُنعزل، وحده! أبوه أحرق ملابسه وكلَّ أشيائه؛ فلا يجب إبقاء أيِّ أثر للفضيحة، ولابدَّ من النِّسيان، وبسرعة!

صديقتي دُفنت اليوم بمكانٍ منعزلٍ أيضًا؛ ثلاثة أيَّام بعد الفتى، صعب على المرء النَّظر حوله ورؤية أحبابه يتناقصون واحدًا واحدًا، وبأيِّ شكل! منذ عام، لا أحب تذكره؛ فاسمه صار من التابوهات! لم نعد نذكره؛ نسيناه منذ زمن، و"سامية" تلحق به اليوم؛ كيف مصيرها الآن يا ترى؟ يُخيفني التَّفكير في ذلك، كنت أظنُّ أنِّي نجحت في مواساتها؛ لكن، فشل ذريع، وهذا الألم في الصَّدر يمنعني من التَّنفس، كيف تجرَّأت؟ ألَمُها كان شديدًا؛ لكنَّها ربَّما كانت ستنسى! لكنِّي الآن صرتُ أفهم! لم تكن لتنسى أبدًا، فالجرح قد ثبت على الجسد قبل الذَّاكرة، كان لها صديق كنت أكرهه، لكنَّها كانت تحبُّه! كان أملُها الوحيد بعدما خسرت في امتحان البكالوريا عدَّة مرَّات، حاولتُ إبعادَها عنه، لكنَّه كان أشدَّ تأثيرًا عليها مني، ولمَّا ألْحَحتُ عليها كَرِهتْني واتَّهمتْنِي بالغيرة! كانت ترى فيه فارسًا، لكنَّه كان نَذلاً حقيرًا، تزوَّج الأسبوع الماضي؛ لم تحتمل الخبر ولا الضَّجيج المُنبعث من العرس، قالت لي حينها: إنَّها لن تقوى على الحياة من دونه!

لم أفهم حزنها! هدَّأتُها، وقلت لها: إنَّه لا يستحق، إنَّها ستنساه مع الوقت، وعندما ستتزوَّج من غيره سيصبح ذكرى بلا معنى، أجابتني بأنَّها لن تستطيع الزَّواج من غيره! لم أفهم حينها، والآن بعد تقرير الطَّبيب الشَّرعي المتسرِّب صِرت أفهم! كانت جريمةً مُزدوجة، ماتت نفسان! كيف وقعت؟! أين كان عقلها؟! عثروا على مهدِّئات كثيرة في غرفتها؛ أخذت جرعة زائدة من إحداها؛ وكان مفعولها قويًّا، لمَّا تفطَّنوا في البيت للحادثة حاولوا إنقاذها؛ حملوها في السَّيارة إلى المستشفى؛ السَّائق قال فيما بعدُ: إنَّ وضْعَها حينها كان مريعًا! كانت تتخبَّط بشدَّة بين ذراعي أمِّها وأخيها، وفقاعات بيضاء كانت تخرج من فمِها! تألَّمت كثيرًا وماتت قبل الوصول إلى المستشفى، النَّذل الحقير! إنَّه الآن سعيد مع زوجته في شهر العسل! وهي خسرت كلَّ شيء؛ فالانتحار ليس أمرًا بسيطًا؛ يُقال عنه: كَبيرة! ماذا دهاها؟! كلُّ المشاكل مهما تعقَّدت تحلُّ مع الوقت، لكن بعض الانزلاقات تتبعها أخرى، حتى يصل الإنسان إلى قاع الجحيم! هكذا الحياة!

يقولون: (عندما يغيب القطُّ تلعب الفئران) صدَقوا! لكن الأصدق أنَّه عندما يغيب ذكر الله، تعبث الشياطينُ، ويصبح الإنسانُ حينها كفأر التَّجارب بين أيديهم، والنَّتائج تكون دائمًا إيجابيةً للمجرِّب، كارثيَّة على المُجرَّب عليه! دنيا خطرة، وفيها أفخاخ محفورة في كلِّ مكان، وفي كلِّ صوبٍ واتِّجاه! وأنا أكره المُغامرة، وأكره الخَسارة! أختار الارتفاع عاليًا نحو السَّماء، بعيدًا عن كل الحُفَر، هذه سبيلي للخلاص.


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

نموذج الاتصال

Nom

E-mail *

Message *

Traduction ترجمة

التسميات