آخر المواضيع

mercredi 11 février 2015

الأخلاق الممارسة

الأخلاق الممارسة


أينما الْتفتْنا حولنا نجدُ الكثير من الأخلاق المعطَّلة، التي رُكنت في زوايا الحياة؛ حتى أصبحت غير قابِلةٍ للتفعيل.

الأخلاق الحسنة من أسمى الفضائل التي يجب التزامها واتِّباعها، لكن الملاحَظ بأنها تحوَّلت إلى فضائل نظريَّة لا تتجاوَز الأوراق والعبارات المنمَّقة المكتوبة فيها.

للأسف الشديد أصبحت الكلمات النابية أمرًا مُعتادًا، ألِفت الأذن سماعه، بل لم تعُد تستنكِر حتى أقبح كلمات السِّباب واللِّعان.

وأضحى الاستهزاء بالدين ومُلتزميه، وبالعِلم ومعلِّميه - أمرًا يَزيد من قَبول المرء بين أقرانه ونُدمائه.

تغيَّرت المفاهيم الأخلاقية تمامًا؛ فبعد أن كان الخُلُق الحسن سلوكًا مُمارَسًا، يرفع صاحبه، ويُعلي شأنه، أضحت الأخلاق السيئة هي الأمر الذي يجعل المرء ذا صيتٍ وسُمعة، وبئِست تلك السُّمعة.

إن ما يجعل كثيرًا من المُراهقين يتشدَّقون بالكلمات النابية والعبارات الكُفرية، هو رغبتهم في الصيت والاشتِهار؛ ولأنَّ هذه الفئة من المجتمع لا تتحلَّى بالقَدر الكافي من الوعي؛ فإنهم يُزيِّنون للمسيء عمَله، ويشجِّعونه على الاستمرار فيه؛ ما جعل فئة كبيرة من شبابنا يتَّجِهون إلى نزْع ثياب الأخلاق والحياء عنهم؛ رغبة في الصيت.

والواقع أن قلَّة مشاهدة الأخلاق الفعلية (المُمارَسة) من قِبل القُدوات أو مَن يُفترَض بهم أن يكونوا قدوات، يجعل أبناءنا يَشبون على فكرة أن الأخلاق هي عبارات منمَّقة جميلة نُزيِّن بها أَروقة مدارسنا ومراكزنا وحدائقنا وشوارعنا ومستشفياتنا و...

والأخلاق ليست كذلك أبدًا، إنَّها أفعال تتجسَّد دون الحاجة إلى عبارات تَحثُّ على فِعلها، إنها بذور سُقيت في نفوس النَّشء حتى أضحت سلوكًا فاعلاً.

ليس للعبارات المعلَّقة معنًى إذا لم تكن معلَّقة في داخل النفْس؛ فالمعلِّم الذي يفسِّر لتلاميذه قول الله تعالى: ﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ [البقرة: 195]، لا يصِح أن يكون مدخِّنًا، يُلقي بنفسه إلى التَّهلكة في مَعزِل عن تلاميذه، والمعلِّمة التي تشرَح لطالباتها تفسير الآية: ﴿ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ﴾ [لقمان: 18]، لا يَليق بها أن تنظُر إلى الطالبة من أعلى رأسها إلى قدمَيها محتقِرة إيَّاها؛ لرَداءة ملابسها، أو سوء ذَوقها، أو ضيق ذات يَدها، والطبيب الذي يعالِج المرضى بالتأفُّف والانزعاج والتضجُّر منهم في بعض الأحيان، لا يجب أن ينسى أنهم ما قصَدوه إلا لأنَّهم مرضى، فليراعِ حالاتهم، وما هم فيه من كَرْب، قبل أن يُبرِّر سلوكه بضغط العمل وكثرة المراجِعين، والضابط الذي وضِع في مكانه هذا ليحفَظ الأمن، فيبدأ هو أولاً بنزع الأمن، ويُعطي لنفْسه حقَّ استغلال السلطة وإيذاء من تَطولُه يده.

كل هؤلاء لا يُمارِسون الأخلاق التي كتِبت على أبوابهم، وحشِرت في إطارات جميلة مزخرَفة على مكاتبهم.

إذا غابت الأخلاق الممارَسة في القدوة، فكيف للنشء أن يَنشأ عليها؟!

كيف للتلميذ أن يتعلَّم ممارسة الأخلاق وهو يرى معلِّمَه يغيِّر طريقته في الشرح تمامًا عند حضور المشرِف أو المدير؟!

كيف للطفل أن يتعلَّم الأخلاق وهو يرى والديه يتصنَّعان المِثالية في حضرة المعارف، ويتحرَّران من كل ذلك عند مغادرتهم؟! وكأنما شُدت عليهما الأربطة، فما تنفَّسا حتى حُلَّت عنهما، فما تعلَّم إلا أن الأخلاق عِبء نتكلَّفه أمام الآخرين، ونتحرَّر منه في غيابهم.

كيف للأبناء أن يتعلَّموا مراعاة الذوق العام، وهم يَرون في الشوارع لافتات خُطَّت عليها عبارة: (ممنوع الوقوف)، وقد تَزاحمت المركبات تحت هذه اللافتات دون حرَج أو إنكار من أحد؟

ويَرون مَن يسير بمركَبته لا لهدف رافعًا صوت الأغاني مدوِّيًا دون خجلٍ من فِعله، مُجبِرًا غيره على سماعها، ويرون على جدران أغلب الدوائر والمراكز والمحال عبارة (ممنوع التدخين) أسيرة الإطار، لا تَمنع المدخِّنين من ممارسة إيذائهم لغيرهم بإجبارهم على استِنشاق روائح دخانهم المزعِجة.

إن عدم مراعاة الذَّوق العام من أوضح دلائل عدم تطبيق الأخلاق وممارستها، والحقيقة أن ممارسة الأخلاق أهم بكثير من حفْظها عن ظَهر قلب، فليس الهدف من تعليمها الحفظ، بل المُمارَسة.

لا تُعلِّموا أبناءكم الأخلاق نظريًّا، بل طبِّقوها عمليًّا.
اجعلوها أخلاقًا مُمارَسة.


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

نموذج الاتصال

Nom

E-mail *

Message *

Traduction ترجمة

التسميات