آخر المواضيع

mercredi 11 février 2015

فسد الأصل فمال الفرع

فسد الأصل فمال الفرع


الأمومة غريزة أودَعَها الله تعالى نفوس النساء، بها تحب المرأة وليدها، وتحنو عليه، وتكابد لأجله كل الصعاب، لكن الله ما أودَع في النفوس هذه الغريزة إلا لتكون وسيلةً لغاية أسمى، لا أن تكون غاية في حد ذاتها؛ إذ بهذا الحنوِّ والعطف تستبسل الأمُّ في أداء مهمة التربية، وإعداد الأجيال التي تنهض بالأمة، وبهذه الغريزة تقتحم العقبات، وتديم سقي الغرس حتى يزهر ويثمر.

لكن الذي يؤسف له أن الأمومة صارت عند الكثيرات غايةً لا وسيلة، فجلُّ ما تصبو له نساء اليوم هو الظفر بزوج وإنجاب أبناء، وغاية ما يُقِضُّ مضجعهن ألا يُنعَتْنَ بـ: "العانس" أو "العقيم"؛ ولهذا تخلَّفت الأمُّ عن دورها التربوي، وتقاعست تلك المدرسة الرشيدة عن إنجاب الأجيال الواعدة، وغدت مجردَ آلة لتفريخ النسل، جلُّ اهتمامها توفير المأكل والمشرب والملبس لفِلذة كبدها، والحرص على أن يبدو في ظاهره أنيقًا جميلاً، ولا يهمُّ أن يكون سطحيَّ الفكر، عديم المسؤولية، ولم تؤرِّقْه بهمِّ الأمَّة أو الدِّين أو الدعوة، فليعش لنفسه ومستقبله فحسب.

وفي غياب القدوة والمربي انبرتْ جهات أخرى للأمر، فصار الشارع يربِّي، وأضحى الإعلام يوجِّه ويشحَذُ أفكار الصغار بكل ما هو فاسدٌ وتافهٌ، وترك الأولاد فريسة للوحدة والضياع في غياب تواصل حقيقي وبنَّاء معهم.

وإذا النساء نشَأْنَ في أميةٍ 
رضَع الرجالُ جهالةً وخمولاَ 
ليس اليتيمُ مَن انتهى أبواه مِن 
همِّ الحياة وخلَّفاه ذليلاَ 
فأصاب بالدنيا الحكيمة منهما 
وبحُسن تربية الزمان بديلاَ 
إن اليتيمَ هو الذي تلقى له 
أمًّا تخلَّت أو أبًا مشغولاَ 

لهذا حين تبصر اليوم الأمهات تصطحبن بناتهن وأولادهن إلى مسابقات الغناء التي تعلِّمُ الشباب الانحلال بشتى أشكاله، وتَراهنَّ يصفقن لهم، ويتضرعن بالدعاء لله أن يوفقهم للظَّفر بمثل هذه المسابقات، لا تملك إلا أن تعلن حُكم البراءة لهذه الأجيال؛ فحيث فسَد الأصلُ مال الفرعُ.

ما ذنبهم إن كانت مدرستهم لم تلقِّنْهم سوى مناهجَ تدعو للتفسخ والانحلال؟ وكيف نلوم طفلة علَّمتها أمها الدندنة منذ الصغر، وراقَصها والدها على نغمات القيثارة منذ نعومة أظفارها؟ ماذا ننتظر من جيل فقَد مدرِّسوه الأهلية إلا أن يكون جيلاً مسخًا مشوَّهًا لا هويَّةَ له ولا ملامح؟

ألا يا أمهات المسلمين، أفِقْنَ من سباتِكن، فما أيسرَ الإنجابَ! وما أصعبَ التربية وما أشقاها! ولأجلها جُعلت الجنة تحت أقدامكن، وتعلَّمن الدروس والعظات من الأمهات المدرسات اللواتي أنجبن للأمة علماءَ وقادة ما زال التاريخ يردِّد أسماءهم، ويتغنَّى بفضل أمهاتهم، ودونكنَّ هذه النماذج المشرقة:
فها هي أم الإمام الشافعي تغذِّي في ابنها رُوح المصلحة العامة، وتَنذِر حياتها له لتصنع منه عالِمًا يجمع الله به شمل الأمة، فتقول له: "يا بني، مات أبوك، وإننا فقراء، وليس لنا مال، وإني لن أتزوج من أجلك، وقد نذرتُك للعلم، لعل الله يجمع بك شمل هذه الأمة"، فجاهدتْ فيه، وأحسنت تربيته، حتى غدا عالِمًا من علماء الأمة.

وهذا أبو الفرج ابن الجوزي توفي والده وله ثلاث سنوات، فتعهدت أمُّه وعمَّته بتربيته وتلقينه مبادئ العلم النافع، فأخذتاه إلى مسجد أبي الفضل بن ناصر، وهو خاله، فاعتنى به وأسمعه الحديث، وحفظ القرآن، وتتلمذ على يد مشايخ عصره متقلبًا بينهم، ينهل من فيض عِلمهم، ويولي وجهه شطر وجهة ارتضتها له أمٌّ حكيمة، وعمَّةٌ ناضجة.

وكثيرٌ منا يعرف قصة ست الركب بنت علي بن محمد العسقلانية، أخت الإمام ابن حجر العسقلاني، التي نشأت في بيت علم وفقه، ونالت الإجازة من والدها، ومن علماء بمكة ومصر وتونس وغيرها؛ حيث اعتنت هذه السيدة المجيدة بتربية أخيها ابن حجر، فأخذ منها مكارمَ الأخلاق، والصلاح، والتقوى، وكان يقول عنها: "كانت قارئةً كاتبة أعجوبة في الذكاء، وهي أمِّي بعد أمي"، ويقول في موضع آخر: "كانت بي برَّةً رفيقة محسنة جزاها الله عني خيرًا؛ فلقد انتفعتُ بها وبآدابها مع صِغَر سنِّها".

ولما رحلَتْ ست الركب عن عالَم ابن حجر وكان عمره 24 سنة، تألَّم لفِراقها ألَمًا شديدًا، وكتب يرثيها وكأنه يرثي أمه؛ لأنها كانت أمه بالفعل، ويقول:
بكيتُ على تلك الشَّمائل غالَها 
كثيف الثرى بعد التنعُّم واللُّطف 
بكيتُ على حِلم وعِلم وعِفة 
يقارن مع عز الهدى هزة الظُّرف 
بكيتُ على الغصن الذي اجتُثَّ أصلُه 
ولم أجنِ من أزهاره ثمر القطف 

وقال:
فقدتُ بك الأهلين قربى وألفة 
فأقسمت ما لي بَعد بُعدِك من إلفِ 

ولننظر إلى تلك الأم الناضجة التي خبرت دروب الحياة، فسددت كلماتها لترفع همةَ فِلذة كبدها، وتشد من عزيمته للمضي قدمًا نحو الأمام، تلكم أم محمد بن عبدالرحمن الأوقص - الذي كان كما روى أبو إسحاق - عنقُه داخلاً في بدنِه، وكان مَنكِباه خارجينِ كأنهما زجان، فقالت له أمُّه: يا بنيَّ، لا تكونُ في قوم إلا كنت المضحوك منه، المسخور به، فعليك بطلَبِ العلم؛ فإنه يرفعُك، قال: فطلب العلم قال: "فولِيَ قضاءَ مكة عشرين سنة، قال: فكان الخصم إذا جلس بين يديه يرعد حتى يقوم"؛ "من مختصر كتاب نساء صنَعْنَ علماء، لأم إسراء بنت عرفة بيومي".

وكثيرٌ من الصحابة والصالحين يَدينون لأمهاتهم أو أخواتهم بالفضل؛ لأنه كان لهنَّ الفضلُ الكبير في مسيرتهم العلمية والعملية؛ فالزبير بن العوام مَدِين بعظمته لأمه صفية بنت عبدالمطلب، وعبدالله والمنذر وعروة ثمرات غرس أمهم أسماء بنت أبي بكر، ومعاوية بن أبي سفيان ورِث عن أمِّه هند بنت عتبة من قوة الشخصية وألمعية الذهن ما لم يرِثْه عن أبيه أبي سفيانَ.

وبعيدًا عن علماء الدين، نستقي نموذجًا أنثويًّا أدبيًّا، وهي الأديبة والشاعرة العراقية نازك الملائكة، التي قالت عن أمها سلمى عبدالرازق: "والدتي كان لها أثر واضح في حياتي الشِّعرية؛ لأنني كنت أعرض عليها قصائدي الأولى، فتوجه إليها النقد، وتحاول إرشادي"، وقال لينكولن: "إني مدين بكل ما وصلتُ إليه وما أرجو أن أصل إليه من الرفعة إلى أمي الملاك".

وقال توماس أديسون عن أمه: "إن أمِّي هي التي صنعتني؛ لأنها كانت تحترمني وتثقُ بي، أشعَرَتْني أني أهمُّ شخص في الوجود، فأصبح وجودي ضروريًّا من أجلها، وعاهدت نفسي ألا أخذُلَها كما لم تخذُلْني قط".

ومن النماذج الطيبة في عصرنا الحالي سماحة الشيخ العلامة عبدالعزيز بن باز، الذي نشأ يتيمًا في حضانة والدته هيا بنت عثمان بن عبدالله الخزيم، حيث توفي والده وله من العمر ثلاث سنوات، فاعتنت به والدتُه، ويمَّمَت بوجهه شطر العلوم الشرعية، فكان علَمًا من أعلام الأمَّة البارزين.

فأساس صلاح الأبناء صلاح الأم؛ ولهذا قيل: "وراء كل رجل عظيم امرأة"، يعني مناط الصلاح والفساد راجع للمرأة، فإن صلَحت صلَح معها الزوج والأبناء، وبالتالي صلَح المجتمع، وإن فسَدت، فقد جنَتْ على الجميع.

الأم مدرسة؛ متى كانت مؤهلةً دينيًّا وعِلميًّا وخُلقيًّا، أنتجت للمجتمع أجيالاً رائدة عاليةَ الهمة، ومتى فقدت هذه الأهلية، فلا تتعب نفسك في السؤال: لماذا ترَدَّتْ أجيالُنا وهوت في متاهةٍ سحيقةٍ؟!

فلا تسَلْ أُخَيَّ بعد هذا: ما بال شبابنا؟ وسَلْ: ما بالُ آبائنا وأمهاتنا؟ فحيث استقام الأصلُ استقام الفرعُ إلا ما ندر.



Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

نموذج الاتصال

Nom

E-mail *

Message *

Traduction ترجمة

التسميات