آخر المواضيع

mercredi 11 février 2015

حوار نبوي مع مراهق

حوار نبوي مع مراهق


الحمد لله الذي خلق النفس فسواها، وألهمها فجورها وتقواها، منّ على من أحب فزكاها، وأسلم من شاء فدسّاها، وأشهد ألا إله إلا الله شهادة توحيد يُرجى عقباها، وأشهد أن محمداً خير البرية وأزكاها، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مزيداً؛ لا حدَّ لمنتهاها.

أما بعد، فاتقوا الله - عباد الله -، ﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله... ﴾.

أيها المؤمنون!
التغيّر سنة الله في خَلْق البشر، ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ﴾ [الروم: 54]. ولكل مرحلة عمرية خصائص في التغير، أشدها وأخطرها ما كان في مرحلة المراهقة؛ بين فترة الطفولة والكهولة؛ إذ يعتري المراهق تغيرات في الجسم والنفس والتصور والمشاعر، تتسم بالاندفاع والتقلب والحساسية، ينشأ عنها تصرفات يغلب عليها الاستهجان والحدة وعدم تقدير العواقب، قد تقل أو تكثر. وقد قالت العرب في أمثلتها السائرة: الشباب شعبة من الجنون؛ وذاك ما يستدعي من المربي والموجِّه الحكمةَ في استيعاب تلك المرحلة، وحسنَ تفهّم أحوالها، وسلامةَ أسلوب التوجيه فيها؛ كيما تمرَّ أيامها بسلام، وتغدوَ لَبناتِ بناءٍ في شخصية هذا الشاب من ذكر أو أنثى.

أيها المسلمون!
وفي رحاب سنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - الغراء حادثة تجلّي ما ينبغي أن يُعامَل به المراهق، ويُعدَّلَ به شَطْحُ تصوره وسلوكه بأرفق طريق وأقومه؛ فقد روى أبو أمامة - رضي الله عنه -: " أنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ؛ فَزَجَرُوهُ، وَقَالُوا: مَهْ! مَهْ! فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ادْنُهْ "، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا، قَالَ: فَجَلَسَ، فقَالَ: " أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟ " قَالَ: لَا وَاللهِ! جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: " وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ "، قَالَ: " أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟ " قَالَ: لَا وَاللهِ، يَا رَسُولَ اللهِ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: " وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ "، قَالَ: " أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟ " قَالَ: لَا وَاللهِ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: " وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ "، قَالَ: " أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟ " قَالَ: لَا وَاللهِ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: " وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ "، قَالَ: " أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟ " قَالَ: لَا وَاللهِ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: " وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ "، قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: " اللهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ "، قَالَ: فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ " رواه أحمد وصححه الألباني. الله أكبر! هكذا عالج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معضلةً يتطامن عنها أكثر مشاكل المراهقة التي يئنّ المربون من حمأة وطأتها، ويحتارون في استصلاحها؛ مجاهرة في رغبة مقارفة الفاحشة أمام الملأ! بل واستئذان لها! مما جعل أصحابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يطيقون سماع ذلك؛ فابتدروا الشاب بقوارع الإنكار، والأمرِ بالكف عن الاسترسال في طلبه المشين. فكيف كان موقف أعظم مربٍّ - بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم؟!

أيها الإخوة في الله!
إن تفهّم مرحلة الفتى العمرية ودوافع النزق التي تؤزّه على فعل السوء بادية في حسن تعامل النبي - صلى الله عليه وسلم - معه؛ إذ إن فهم تلك الدوافع مؤذن بالدلالة على أرشد السبل لتقويمها. وليس بين فهم الدوافع وقبولها اقتران دائم؛ فإن منها ما يُقبل، وما يُعذر فيه وإن لم يُقبل، وما لا يعذر فيه ولا يقبل؛ فلم يحمل تفهّمُ النبي - صلى الله عليه وسلم - لنزوة الفتى على قبولها أو تسويغ العذر لها، كلا، وإنما سلك أسلوباً حكيماً في اجتثاث جذور الانحراف من قلب ذلك الفتى؛ مما يجعل ذلك الأسلوبَ مفزعاً للمربين في تقويم سلوك من يربونهم من المراهقين.

هذا، وإن من أهم معالم هذا الأسلوب النبويّ تحلّيَه بالرفق واللين؛ إذ الأمور تعالج بأضدادها؛ فحين كانت طبيعة المراهق تتوقد اندفاعاً وجرأة، وغضبه حاضر، ورأيه حادٌّ، وبصره كليل؛ ناسب أن يُواجَه سلوكُه بهدوء ولطف؛ لئلا ينفر، أو يعاند؛ فالرفق ما كان في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه، وإذا أراد الله بأهل بيت خيراً أدخل عليهم الرفق، ويعطي - سبحانه - على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على غيره. والاحترام، والتقدير، والإشعار بالرجولة للفتى، والأنوثة للفتاة، واستقلال الكيان من أهم ما يحتاجه المراهق في التعامل معه، وفي حلِّ مشاكله؛ وذاك ما يَفْعَمُ به تعامل النبي - صلى الله عليه وسلم - مع ذلك الشاب. يتبدّى ذلك في إقبال النبي - صلى الله عليه وسلم - على الشاب، وطلبه القربَ منه، والنظرِ إليه، وإعطائه الفرصةَ في إبداء آرائه، وعدم مقاطعة حديثه، وعدم الانشغال عنه، وترك تعنيفه وتسفيهِ منطقه واحتقار تفكيره، وحفاظه على صون الكرامة، وتنمية الثقة في نفس الشاب، وغمره بمشاعر المحبة التي فاقت أفعالُها كلماتِها - مع أنه يستأذنه في فعل الفاحشة! -.

عباد الله!
وفي إقبال الشاب على النبي - صلى الله عليه وسلم - ومصارحته له بهذا الأمر المستقبح إشارة إلى ما ينبغي أن يكون عليه المربي من قرب ممن يربيه وكسبٍ لثقته؛ ليكون موضع استشارته، وحل مشكلاته. وذاك القرب يستدعي من المربي أن يهيأ له المناخ المناسب من نعومة أظفار من يربيه؛ فمن أهمل مصاحبة ولده صغيراً لم يحفل بقربه كبيراً، وقد قيل: " ولدك ريحانتك؛ تشمها سبعاً، وخادمك سبعاً، ثم هو عدوك أو شريكك "، كما أنه يستدعي من المربي أن يتزود بالمعارف التربوية والمهارات والأخلاق الحسنة واستشارة ذوي الخبرة، وأن يُحْسِنَ مشاركة من يربيه همَّه، وما يَحْسُنُ من متعه المباحة، وأن يبادره بالمصارحة التي تجعله موضع ثقته وقربه؛ فلا يأنفَ من مصارحته، وبث الهمّ له؛ إذ لا بد من له من موضع شكوى وتوجيه، إن لم يجد كفؤاً يسدها، وإلا اتخذ مأفوناً يزيده غيّاً. والصبر عُدّة لازمة في عبادة التربية، لا يُقطع كَأْدُ عقابِها إلا به، وذا ما تحلّى به النبي - صلى الله عليه وسلم - في احتواء الفتى وتقويم سلوكه؛ وذاك بادٍ بالمقارنة بين تصرفه وتصرف أصحابه - رضي الله عنهم -؛ ولن يظفر بالبغية إلا الصابر.

الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد، فاعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله...

أيها المؤمنون!
والمتأمل في معالجة النبي - صلى الله عليه وسلم - يجد أنه اتخذ أسلوب الحوار الهادئ مع هذا الشاب؛ وذاك ما يكاد يجمع أهل التربية على أنه أنجع السبل في توجيه المراهق وتقويم سلوكه. ومما يلحظ في حوار النبي - صلى الله عليه وسلم - اقتضاب عباراته، وعدم استطراده، وعدم تسرعه لتصحيح الحقائق؛ اختياراً للوقت المناسب؛ وذاك ما يتوافق مع طبيعة المراهق، وهو ما أكدته الأبحاث التربوية. ومن معالم التوجيه النبوي للمراهق الإقناع بالمحاورة الهادئة في كلماتها ولفظها، واستثارة العواطف الجياشة التي تفيض بها نفس المراهق، وتوظيفها في معالجة سلوكه، وحسن تصوير قبح فعله حين يُمارَس مع أحب الناس إليه، واستصدار الأجوبة المكررة ذات الإجابة المتفقة المنسجمة مع التوجيه من المراهق نفسه، والتدرج فيها من الأقوى والأقرب، وتعقيبها بالتوجيه بأوضح عبارة وأوجزها وألطفها؛ حتى كأن تلك الأسئلةَ بأجوبتها والتوجيه الموالي لها ضرباتُ فأسِ ماهرٍ مركّزة ٌعلى أصل شجرة خبيثة لم تصمد أمام تلك الضربات. هكذا كان إقناع النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذا الشاب، وقد ختمه بذلك الدعاء العظيم " اللهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ ". فالتوجه إلى الرب الكريم المالك قلبَ هذا الشاب بسؤال الخير له - خاصة ممن دعاؤه مجاب؛ ذلكم الوالد من أم أو أب، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْوَالِدِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ " رواه أبو داود وحسنه الألباني - أرجى أسباب فلاحه، وبالغ العَجَب من والد سخّر دعوته المجابة في الدعاء على ولده!

أيها المسلمون!
هذا عبق من عبير رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - في تربية المراهق، وغيض من فيض نميره الرقراق، وأسوته التي لا يعتريها زلل. ألا ما أحرانا بلزوم ذاك المهيع الهنيء، والمنهل الروي؛ فذاك أمر الولي: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].
لن تهتدي أمة في غير منهجه 
مهما ارتضت من بديع الرأي والنُّظُمِ



Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

نموذج الاتصال

Nom

E-mail *

Message *

Traduction ترجمة

التسميات